مجزوءة المعرفة : مسألة العلمية في العلوم الإنسانية


المحور الاول : موضعة الظاهرة الإنسانية

-  موقف جون بياجي : يواجه الباحث في العلوم الإنسانية مشكل تحديد المنهج المناسب إلى جانب التخلص من الذاتية، و ينتج عن هذا الوضع المتداخل صعوبة تحقيق الموضوعية.
يعتقد جان بياجي أن إشكالية موضعة الظاهرة الإنسانية جد معقدة نظرا لطبيعة العلاقة التي تربط الذات بالموضوع. فالذات التي تجرب على نفسها وعلى الغير تتغير نتيجة لما لاحظته، وما قامت بتجربته، كما تعمل على التأثير فيما تدرسه وتغير من مجراه ومن طبيعته. وهذا نموذج من الإشكاليات لا تعرفه العلوم الطبيعية، ففي هذه العلوم يستطيع العالم أن يميز نفسه عن الظاهرة المدروسة. أما في العلوم الإنسانية فإن إشكالية العلمية تظل قائمة لاعتبارين هما :
عدم الوضوح الكافي للحدود الفاصلة بين الذات والموضوع.
اعتقاد العالم بأنه يملك قبليات معرفية تجعله قادرا على الاستغناء عن التقنيات العلمية.
-  موقف فرانسوا باستيان : يؤكد على ضرورة الفصل بين الذات والموضوع والالتزام بالحياد، وذلك بتأمل الظواهر باعتبارها أشياء ويقتدي بالعلوم التجريبية.
يحاول فرانسوا باستيان أن يقلل من أهمية التداخل بين الذات والموضوع في العلوم الإنسانية، حيث يبين أن طبيعة الظاهرة المدروسة تحتم انخراط العالم في مجتمعه، ومن ثم يتبين أن الانفصال الذات والموضوع أمرا غير قائم حتى لو أراد العالم ذلك.. إن هذا ما يفسر، في اعتقاد باستيان، لماذا ركز رواد العلوم الاجتماعية على ضرورة تحقيق هذا التباعد وبالتالي أهمية اتخاذ مسافة بين العالم والمجتمع.

المحور الثاني : التفسير و الفهم في العلوم الإنسانية

-  موقف كلود ليفي ستراوس : البحث في مجال العلوم الإنسانية لا يستطيع أن يصل إلى تفسير دقيق للظواهر، كما لا يستطيع أن يصل إلى تنبؤ صحيح بما ستكون عليه.
يعتقد ليفي ستروس أن العلوم الطبيعية علوم تفسيرية وتنبئية على الرغم من الصعوبات التي تطرحها العلاقة الموجودة بين الوظيفتين. لكن الأمر يختلف فيما يخص العلوم الإنسانية، لأن هذه العلوم لا تقدم سوى تصورات فضفاضة. وعلى الرغم من أنها علوم مهيأة في الأصل لكي تقوم بوظائف تنبئية إلا أن تنبؤاتها غالبا ما تكون خاطئة.  لهذا يرى ليفي ستروس أن العلوم الإنسانية تتموقع في الحقيقة بين التفسير والتنبؤ، وهذا لا يعني أن هذه العلوم غير ذات أهمية لأنها قادرة على أن تقدم للممارسين نوعا من الحكمة التي تتأرجع بين المعرفة الخالصة والمعرفة النافعة.
-  موقف فلهلم دلتاي : يرفض تقليد العلوم التجريبية كما يرفض اعتماد التفسير في دراسة الظواهر الإنسانية، و يؤكد على ضرورة بناء منهج يناسب الظواهر الإنسانية.
ينطلق فيلهلم دلتاي من التمييز الميتودولوجي بين مساري كل من العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية. فإذا كانت الأخيرة تنظر إلى موضوعها باعتباره ظواهر خارجية ومعزولة؛ فإن العكس هو الذي يجب أن يحدث في العلوم الإنسانية، لأنه يجب أن نتمثل الحياة النفسية كوجود أولي وأساسي موجود في كل مكان. ومن ثم، تصبح العلوم الإنسانية وسيلة لفهم الحياة باعتبارها كلا معطى في التجربة الداخلية. لذا أصبح من الضروري أن تختلف المناهج التي تعتمدها العلوم الإنسانية عن تلك المعتمدة في العلوم الطبيعية.

المحور الثالث : نموذجية العلوم التجريبية

-  موقف ورنيي - طولرا : إن العلوم الإنسانية لا يمكنها أن تصل إلى معرفة حقيقية للظواهر الإنسانية إلا بهذا التداخل بين الذات و الموضوع، فلا ينبغي ألا تطغى هذه الذاتية على البحث فتغير من نتائجه و تأول دلالته.
تتوقف علمية العلوم الإنسانية في نظر الباحثين لابورت-تولرا ووارنيي على إدراك أن هذه العلوم تفترض أن تكون الذات هي نفسها الموضوع المدروس علاوة على أن العالم يعتبر طرفا وحكما في نفس الوقت، إلا أن ذلك لا يجب أن يؤثر في النظرة إلى القيمة العلمية لهذه العلوم، لأن الغاية الإبيستيمولوجية لإبراز التداخل الموجود بين الذات والموضوع يتحدد أساسا في تسطير الشروط المنهجية التي يجب اعتمادها والتي يجب أن تتوفر في العلوم الإنسانية. بل من المؤكد أن الفيزياء المعاصرة تعرف نفس الإشكاليات، مما جعلها تأخذ بعين الاعتبار تدخل الملاحظ في بناء الظاهرة مما يؤكد غياب القطيعة بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية.
-  موقف ميرولو بونتي : كل إنسان ينطلق من وجهة نظره الخاصة ومن فهمه الخاص إن حضور الذات مركزي في تكوين كل معارف الإنسان.
ينظر ميرلوبونتي إلى العلم باعتباره مجرد معرفة بعدية تأتي بعد حقيقة العالم المعيش الذي يعبر عن التجربة الأساسية للوجود الإنساني. ومن ثم، لا يجب أن ننظر إلى الإنسان باعتباره موضوعا لعلوم طبيعية أو إنسانية. فالذات الإنسانية تمثل المصدر الحقيقي للعالم المادي، فلولا وجود الذات لما كان للعالم أبعاد ولا جهات.. ومن ثم فالواقع يوجد انطلاقا من الذات ومن أجلها.



X

أخي أختي لا تنسوا اخوانكم في فلسطين من الدعاء

اللهم انا نستودعك أهل غزة